"فورين بوليسي": "الجنوب العالمي" مصطلح يجسد الآمال في عالم أكثر إنصافاً

بعيد المنال فكرياً ولكنه غني عاطفياً

"فورين بوليسي": "الجنوب العالمي" مصطلح يجسد الآمال في عالم أكثر إنصافاً

عند التحدث عن الجنوب العالمي، لا يتعلق الأمر بأكثر من 120 دولة يتم وضعها عادة في هذه الفئة، ولكن حول الفكرة نفسها، والطريقة التي استحوذت بها على الخطاب الدولي في السنوات الأخيرة، دعونا إذاً نطرح سؤالا أساسيا: هل هناك شيء اسمه جنوب عالمي؟

يرى تحليل أجرته مجلة "فورن بوليسي" الأمريكية، أن إلقاء أكثر من نصف البشرية في دلو واحد ليس فقط عيوبا تحليلية عميقة، لكنه يشكل عقبة أمام الانخراط الجاد مع العالم غير الغربي، على الرغم من النوايا الحسنة ظاهريا من قبل النقاد والسياسيين وصناع السياسات الذين يستخدمون هذا المصطلح، لكن المخاطر في التمسك بـ"وهم" عالم جماعي غير غربي كبيرة جدا، سواء في الغرب أو بين البقية.

وأصبح تجميع العالم غير الغربي الشاسع والمتنوع والمنتشر على نطاق واسع في فئة واحدة ذات اهتمامات متشابهة مفترضة اختصارا مناسبا في المناقشات حول قضايا تتراوح من سياسة المناخ إلى الاستجابة لوباء "كوفيد-19" إلى حرب روسيا في أوكرانيا.

وفي الوقت الذي تصطف فيه العديد من الدول ضد إسرائيل في تصويتات الجمعية العامة للأمم المتحدة، اكتسبت فكرة وجود جنوب عالمي على خلاف مع الشمال العالمي المزيد من الزخم.

ومع ذلك، فإن استخدام الجنوب العالمي كفئة وإطار مرجعي يجعل من الصعب للغاية فهم الحقائق المعقدة لمختلف البلدان والمناطق، وعلى الرغم من الاستخدام المتزايد للمصطلح، فإن العيوب التحليلية الموضوعية للجنوب العالمي كفئة تظهر بشكل حاد بمجرد أن تخدش ولو قليلا.

ما القاسم المشترك بين الصين وبيرو؟ قطر مع هايتي؟ تايلاند مع سيراليون؟ إن تجميع بلدان مثل هذه في فئة واحدة -ثم تعريف هذه الفئة على أنها مختلفة بطبيعتها عن الشمال العالمي- هو حاجز أمام فهم عالم معقد.

ووفقا لتحليل "فورين بوليسي" يعد "الجنوب العالمي" هو مصطلح بعيد المنال فكريا ولكنه غني عاطفيا يجسد العديد من الآمال والمخاوف بشأن عالم أكثر إنصافا سياسيا واقتصاديا.. نشأت من نزاعات ما بعد الاستعمار بين الغرب والبقية على طول محاور متعددة، المتقدمة مقابل النامية، والأغنياء مقابل الفقراء، والأقوياء مقابل الضعفاء.

قامت لجنة بقيادة المستشار الألماني السابق فيلي براندت بتدوين الانقسام في تقرير عام 1980، ورسمت حرفيا خطا أسود سميكا عبر خريطة العالم، لقد صمد ما يسمى بخط براندت كطريقة للتفكير في العلاقة بين الغرب والبقية.

بعد فترة من السبات في الأوساط الأكاديمية خلال ذروة العولمة في تسعينيات القرن العشرين وأوائل أواخر القرن العشرين، انفجرت فكرة الجنوب العالمي مرة أخرى في الخطاب الدولي السائد في السنوات الأخيرة.

وبالتالي فإن المفهوم هو نبيذ قديم في زجاجة جديدة، يقف في سلسلة طويلة من الأفكار والمذاهب التي تنمو من لقاء أوروبا مع بقية العالم الذي بدأ بشكل جدي قبل خمسة قرون.

في القرن الـ20، أنتج هذا اللقاء العديد من الحركات والجماعات والأيديولوجيات عبر الوطنية: الوحدة الآسيوية، والقومية العربية، والوحدة الإفريقية، والوحدة الإسلامية، وحركة عدم الانحياز، والعالم الثالث، ومجموعة الـ77.. كانت بعض هذه الأفكار محلية، والبعض الآخر -مثل العالم الثالث- نتاج النخب الأكاديمية الغربية، ولم ينجُ أي منهم من مواجهة جادة مع العالم الحقيقي.

هذه الإيديولوجيات المتعالية والمعادية للغرب وما بعد الاستعمار اصطدمت حتما بقوى القومية، التي ألغت العديد من الهويات فوق الوطنية التي سعى أنصارها إلى صياغتها في محاولة للوقوف في وجه الغرب.

وحتى على المستوى الإقليمي، فإن أي هويات مشتركة للدين والعرق لا يمكن أن تغطي على الصراعات المتعددة بين مختلف القوميات، خلال أزمة السويس عام 1956، رفض رئيس الوزراء الباكستاني آنذاك حسين السهروردي الوحدة العربية، ولا تزال مشكلة بناء الوحدة العربية قائمة حتى يومنا هذا.

كما أن المصالح الاقتصادية المتباينة بشكل صارخ، ومسارات التنمية، وهبات الموارد، والتقاليد السياسية تتناقض أيضا مع فكرة الجنوب العالمي كمجموعة نظيرة.. والواقع أن العديد من صراعات العالم اليوم تدور بين الدول النامية وداخلها، وعلى الرغم من الجهود المتكررة لدفعهم تحت الغطاء الفكري للعداء المفترض بين الشمال والجنوب، فإن هذه الصراعات بين الدول وداخلها لا تزال تهيمن على سياسات العالم غير الغربي.

وفي سعيها لتحقيق الأهداف الاقتصادية والأمنية، نادرا ما واجهت النخب غير الغربية مشكلة في التعاون مع الغرب مثلا، وانضمت باكستان، القلقة بشأن الهند، إلى تحالفات الحرب الباردة التي تقودها الولايات المتحدة، والهند، التي تشعر بالقلق من الهيمنة الصينية، تتعاون اليوم مع الولايات المتحدة، وتعمل فيتنام، التي تشبه أيديولوجيتها الشيوعية أيديولوجية الصين، على بناء شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة لتعزيز استقلاليتها في مواجهة سلوك الصين في المنطقة.

وعلى الجبهة الاقتصادية، لم يكن من السهل على ما يسمى بالجنوب العالمي بناء تحالف ضد الغرب.. قبل خمسة عقود، كان ينظر إلى الحظر النفطي العربي وتشكيل أوبك على أنه ضربة من قبل العالم الثالث -وهو ما يعادل مصطلح الجنوب العالمي في تلك الحقبة- ضد الغرب للحصول على أسعار أفضل لسلعه.

ومع ذلك، كان من الصعب آنذاك وأصبح أكثر صعوبة الآن التوفيق بين المصالح المتناقضة لمنتجي السلع الأساسية والمستهلكين داخل العالم غير الغربي، لا شيء يجعل الحياة أصعب بالنسبة للناس في البلدان النامية التي لا تنعم بالهيدروكربونات من ارتفاع الأسعار.

وعلى نحو مماثل، لا تختلف العلاقات الاقتصادية بين الهند والصين وجمهورية الكونغو الديمقراطية على سبيل المثال اختلافا جوهريا اليوم عن العلاقات الاقتصادية بين أوروبا أو اليابان، فالشركات الصناعية تحتاج إلى النحاس والكوبالت وغير ذلك من المدخلات.

وفي ما يتعلق بسياسة المناخ أيضا، هناك انقسامات عالمية عميقة، بعض الدول تقف إلى جانب الولايات المتحدة وأوروبا في التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري.

وتحتاج معظم الدول النامية إلى مزيد من الطاقة لانتشال شعوبها من الفقر، ويريد الكثير منها، مثل الهند، الاستمرار في استخدام الفحم وأنواع الوقود الأحفوري الأخرى، ومن ناحية أخرى، فإن البلدان المنتجة للنفط في الشرق الأوسط وإفريقيا وأميركا اللاتينية ليست مستعدة للتخلي عن مصدر ثروتها الرئيسي.

وأنتجت مسارات التنمية المتباينة داخل ما يسمى بالجنوب العالمي علاقات مختلفة للغاية مع البلدان الغنية؛ ازدهرت منطقة شرق آسيا من خلال إيجاد أرضية مشتركة مع رأس المال الغربي لرفع مستويات معيشة شعبها بسرعة، فقد انضمت كوريا الجنوبية إلى صفوف الدول الغنية، وينظر إلى الصين على نحو متزايد باعتبارها نظيرا اقتصاديا وتكنولوجيا للغرب.

والواقع أن صعود الصين لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم هو في فئة خاصة بها، وأيا كانت طبيعة الصراع بين الصين والغرب، فلا جدال في أن صعود الصين والغرب كان ممكنا بنشاط من قبل الأخير.

وفي الوقت الذي تتشاجر فيه الصين مع الغرب، أخذت الهند صفحة من الكتاب المدرسي الصيني وتغازل بشغف رأس المال والتكنولوجيا الغربية على أمل الاستفادة منها لتحقيق النمو السريع.

وهو ما يقودنا إلى عيب تحليلي آخر: الحدود السائلة للجنوب العالمي والمعايير الغامضة للإدراج.. الصين، الشريك الأصغر للاتحاد السوفيتي في القرن الـ20، هي الآن الشريك الأكبر لروسيا، وادعاء بكين أنها لا تزال دولة نامية أمر مشكوك فيه في أحسن الأحوال.

وبينما تدعم الصين حرب روسيا في أوكرانيا ويمد حلف شمال الأطلسي يده إلى آسيا، فإن التكامل المتكشف للمجالات الأمنية الأوروبية والآسيوية -الذي غالبا ما تقوده الدول الآسيوية بنشاط- يزيد من تقويض فكرة العالم غير الغربي كعامل مساعد سلبي لشمال عالمي.

تعبر مجموعة جديدة من الشراكات الأمنية المصغرة بسهولة الفجوة المفترضة بين الشمال والجنوب، وبدلا من البقاء في الفئة التي حددها النقاد لهم، تسهم القوى الصاعدة في نقاط مختلفة من البوصلة بشكل متزايد في توازن القوى بين الجهات الأمنية التقليدية.

منذ أن اكتسب مفهوم الجنوب العالمي أرضية لأول مرة، ازداد التمايز داخل العالم النامي حدة، لقد اكتسبت دول الخليج ثروات هائلة، مثلا، تصنف دبي الآن كمركز مالي رئيسي إلى جانب نيويورك ولندن وشنغهاي وهونغ كونغ وسنغافورة.. تقود رؤوس الأموال الخليجية النمو الاقتصادي في جميع أنحاء الشرق الأوسط وإفريقيا، كما أنها تمنح الثقة لممالك الخليج للتدخل بنشاط في مختلف الصراعات الداخلية والإقليمية، كما هي الحال في اليمن.

ويؤدي الترويج غير الأخلاقي للخوف في الغرب إلى تفاقم الارتباك التحليلي الناتج عن مصطلح الجنوب العالمي، والخوف غير العقلاني من البرابرة عند البوابة يدفع الكثيرين في الغرب إلى نسخة أخرى من شمولية العالم غير الغربي.

في عام 2018، عبر الرئيس دونالد ترامب عن ذلك  بشكل أكثر فظاظة عندما أشار إلى "دول القذارة" أثناء مناقشة الهجرة من إفريقيا وهايتي.

تذكر أيضا مخاوف المفوض الأوروبي جوزيب بوريل بشأن الغابة غير الغربية التي تغزو حديقة الازدهار والنظام الأوروبية، بطرق غير مريحة، فإن البناء المحافظ لجنوب عالمي بربري والبناء التدريجي الذي يؤكد على الضحية والشعور بالذنب الغربي هما وجهان للعملة نفسها الاختزالية التي تجمع شريحة واسعة ومتنوعة من البشرية في فئة عقلية واحدة.

بالنسبة لليبراليين الغربيين، فإن بناء الجنوب العالمي هو وسيلة سهلة للإشارة إلى التعاطف مع العالم غير الغربي، ومع ذلك، فإن هذا التعاطف مشوب دائما بقليل من التنازل، إنه ينكر على البلدان الفردية من خلال معاملتها ككتلة واحدة، وعادة ما يفترض مسبقا أن هذه الكتلة ستقدم مجموعة من القضايا الليبرالية الغربية -من سياسة المناخ إلى رؤى العدالة الاجتماعية- سواء تبنتها البلدان الموصوفة بالفعل أم لا.

على الرغم من اختفاء الإمبراطوريات، فإن الاتجاه الغربي على كل من اليسار واليمين لا يزال يعظ ويحكم ويعاقب.

ووفقا لـ"فورين بوليسي"، لدى النخب غير الغربية أسبابها الخاصة لتبني الجنوب العالمي، إن إلقاء اللوم على الغرب هو دائما عذر جيد لإخفاقاتهم، والمواقف ضد الغرب كانت دوما سياسة جيدة.. كلتا الاستراتيجيتين متجذرة في سرد ما بعد الاستعمار عن الضحية، وكلتاهما تتجاهل التقدم غير العادي الذي تم إحرازه في أجزاء كثيرة من العالم غير الغربي في العقود القليلة الماضية.. إنهم يرفضون القدرة المتنامية للعالم غير الغربي على تغيير شروط التعامل مع الغرب.

ويبرز صعود الصين على مدى العقود الثلاثة الماضية كمثال دراماتيكي، وعلى الرغم من خطابها المتجدد الذي يروج لجنوب الكرة الأرضية، فإنها كانت تتفاوض على شروط محببة مع الغرب.

ويتأسس الكثير من الخطاب حول الجنوب العالمي على المياه الضحلة لمحاولة تفسير صعود الصين والهند ودول الخليج والنمور الآسيوية وغيرها من القوى غير الغربية التي اكتسبت نفوذا هائلا للتأثير على النظام الإقليمي والعالمي، لماذا إذاً تدافع بكين ونيودلهي عن فكرة الجنوب العالمي؟ من الواضح أنه جزء من معركة عالمية من أجل النفوذ.

بالنسبة للصين، فإن الخطاب حول الجنوب العالمي يدور حول تعبئة العالم غير الغربي في منافسته الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، وتشعر الهند بدورها بالقلق إزاء اندفاع الصين المتزايد نحو جوارها وتحاول استعادة أسهمها السياسية التقليدية في العالم غير الغربي.

ولكن على عكس التصورات الغربية المنتشرة على نطاق واسع، فإن الهند -التي كانت في السابق قوة دافعة وراء حركة عدم الانحياز البائدة- لن تعود إلى قواعد اللعبة القديمة.

وعلى النقيض من صورة الجنوب العالمي العاجز، فإن حتى أصغر البلدان في العالم غير الغربي تدرك المجال الجديد الحالي للمناورة، على عكس منتصف القرن الـ20 عندما كانت النخب غير الغربية مدفوعة إلى حد كبير بالأيديولوجية، فهي اليوم عملية، وهم مستعدون لعقد صفقات ثنائية مع الشركاء الغربيين، حتى وهم يتبنون فكرة قضية جنوبية جماعية كلما كان ذلك الإطار يناسبهم سياسيا أو ماليا.

مع هذا التفسير لمثل هذا المصطلح الشائع، فمن غير المرجح أن تختفي من مفردات العلاقات الدولية في أي وقت قريب، بالنسبة للكثيرين في الغرب، إنها طريقة لتوجيه خزانات عميقة من الاستياء ضد استمرار الهيمنة الغربية، وبالنسبة للقوى الجديدة مثل الصين والهند فإن مناصرة ما يسمى بالجنوب العالمي هي وسيلة لتوسيع نفوذها العالمي، ولكن لا ينبغي لنا أن نخطئ: فاستخدام مثل هذه الفئة الواسعة وغير المتبلورة والمفرطة في التعميم يحجب أكثر مما يكشف. ليس لها قيمة تفسيرية أو تنبؤية تذكر في فهم عالمنا.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية